حركة عدم الانحياز.. في الجزائر
من المفيد لصحة العرب السياسية، أن يلتفتوا بعناية لحركة عدم الانحياز مرة أخرى، في هذه الفترة الحرجة، مثلما كانوا في قلبها منذ عدة عقود. وهذه التحركات لتفعيل ظاهرة عالمية أو مواجهتها، لا تتطلب عادة، أن يكون بلد ما مهماً أو عالمياً، بقدر ما تتطلب أن يكون هذا البلد أو مجموعة البلاد ذات شأن في موازين القوى الدولية.
وفي ظني أن حركة عدم الانحياز، رغم نشأتها في أعقاب حركة «باندونج» وسط الخمسينيات، في آسيا ومساهمة بلاد مثل مصر وزعامتها في تفعيلها، في تلك الفترة، إلا أنها لم تتخذ مكانتها التاريخية الفعلية إلا مع تأكيد مكانة عدد من البلدان العربية مع مصر على وجه الخصوص داخل الصراعات العالمية، في عز الحرب الباردة وسط الستينيات من جهة، وتماسك قيادات مصر والهند ويوغوسلافيا إنتاجياً وصناعياً، وإقليميا في تلك الفترة من جهة أخرى. وقد شاهدت انعقاد مؤتمر قمة عدم الانحياز في القاهرة عام 1964. وأظن أن عبد الناصر عبّر عن العرب بالفعل في هذا الحشد الهائل الذي سبقته القمة العربية والقمة الأفريقية في عاصمة العرب ذلك الوقت! عندئذ احترمت القوى الدولية المتصارعة هذه القوى الصاعدة بحق، لكن المنطقة سرعان ما تعرضت للهبوط، في أواخر الستينيات، ومع ذلك فإنها لم تخب الظن في هذا الدور التاريخي، رغم نكسة يونيو المريرة في مصر عام 1967، وتأثير سقوط زعامات كبرى في إندونيسيا وغانا ومالي. إذ سرعان ما استعادت عافيتها بحرب أكتوبر 1973، وأدارت معركة البترول، وأسعاره المتصاعدة بطريقة، مهما كان الرأي في خيباتها، إلا أنها ضمنت وقتها وضع إسرائيل في مأزق مع الدول الأفريقية، واضطرار قيادات غربية كبرى للإلحاح في الحديث عن الحوار الثلاثي بين العرب وأوروبا والعالم الثالث! بل وبدأ اختراع الحوار الحضاري والثقافي لوجود طرف ثالث – تقريباً من ثقافة العرب الوطنية الملتقية مع الآسيويين والأفارقة تلقائياً، وذلك – قبل أن يجري استخدامه بهذا الشكل المشين بعد ذلك.
وعرفت عواصم العالم عقب حرب أكتوبر وأزمة البترول مواثيق وتحركات عدة، من تصالحات الخليج، إلى مؤتمرات نيودلهي حول عدم الانحياز، إلى وثيقة «لومي» و«داكار» حول المواد الأولية، ثم القفز بالحركة كلها إلى الجزائر، ليدفع بها الراحل «بومدين» إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1974 لتضع دول عدم الانحياز العالم كله أمام خيار النظام الاقتصادي العالمي الجديد.
ولم يهدأ العالم وقتئذ رغم المؤامرات التحتية والفوقية، على الخليج وعلى مصر، واختفاء الصين وراء ثورتها الثقافية، أو استعداداً لانطلاقها الجديد، بل وفتور دور الاتحاد السوفييتي وراء ستار التعايش السلمي، ناهيك عن فتور دور البترودولار نفسه مع بداية الثمانينيات، بما شل دور العرب بدورهم على مستوى العالم الثالث، وحركة عدم الانحياز نفسها!
لم نعد نسمع إلا عن تحركات محدودة داخل الحركة، بما أسماه البعض انتقالاً من الدور السياسي إلى الاقتصادي، بل وفي داخل «الاقتصادي» هذا، وجدنا مطلب المساعدات والقروض يسبق المساهمة الإيجابية في الاقتصاد العالمي، وطرح كل ذلك تصاعد سياسات التكيف الهيكلي و«المشروطية» مقابل المعونات، وقاد البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تلك الشروط جميعاً، بل وبلغ الأمر في التسعينيات أن حل دور منظمة التجارة العالمية محل كل المؤسسات الدولية الأخرى، لتقود الهيمنة السياسية والعسكرية الأدوار الاقتصادية لصالحها في عصر الاستقطاب العالمي مع غياب «الكتلة الاشتراكية» أو الاقتصادات والسياسات «الأخرى» التي خدمت وجود عدم الانحياز من قبل.
لكن ها هي الخريطة العالمية – مع تقدم سنوات القرن الواحد والعشرين – تأخذ في التغيير، بما تعرفه الدراسات الآن بحثاً وعرضاً. فإلى أي حد يستطيع العرب الانتباه لهذه الظواهر الجديدة، ليضعوا أقدامهم مجتمعين إنْ أمكن على عتباتها؟
ها هم «الروس» يقولون: نحن هنا، إنْ لم نكن بالاقتصاد، فبالإشارات السياسية، بل والعسكرية القوية، ومن ثم لا تصبح غرب آسيا متاعاً حلالاً لحلف شمال الأطلسي، ولاتبقي وسط آسيا لتركيا والإسلاميين وحدهم! ولا يضير ذلك العرب في شيئ، إذ أن لجم هذين العنصرين الأخيرين مفيد للجميع. وها هي الصين تصل لقلب البترول الخليجي، وتبعث رسائل القوة في بحور المحيط الهادي والهند الصينية والأسواق والسندات الأميركية! وتتحدث بلغة «الكومنتانج» و« شوان لاي»، وكل اللغات التي يعرفها العالم، من أسواق نيجيريا وجنوب أفريقيا حتى أميركا اللاتينية!، وها هي تتابع سياسات حكومة «بهاراتيا جاناتا» الجديدة في الهند وسياستها التسويقية الجديدة أيضاً في آسيا أو العالم الثالث بما سيحركها أمامها بالضرورة، ويجب أن يفهم العرب من ذلك أن ثمة إعادة التودد إلى إسرائيل ومن هم وراءها، ليتسع نفوذها بدورها في هذه المنطقة.
في هذا الجو، انعقد المؤتمر الوزاري لحركة عدم الانحياز في الجزائر في الأسبوع الثالث من مايو 2014، ليمهد لانعقاد قمة عدم الانحياز في فنزويلا عام 2015 ! وكنت أتصور أن تحوله الدولة الجزائرية إلى ملتقى حي للحركة، في فكرها السياسي والاقتصادي، ومع الفعاليات العربية، والأفروآسيوية، وأمامها تاريخ ممتد في الجزائر نفسها حول العالمثالثية التي اشتهرت بها الجزائر انطلاقاً من لقاءات الدول النامية والنظام الاقتصادي العالمي الجديد أعوام 1974/1977.
قد تكون مصر قد انشغلت بالانتخابات وصناعة القيادة الجديدة، وقد تكون دول الخليج مشغولة ببعض الخلافات والتوافقات والاستعداد لمواجهة التغيرات الكبيرة عالمياً حولها. لكن ماذا كان يشغل الجزائر عن استثمار انطلاقة حركة عدم الانحياز الجديدة من أرضها، وكرسالة للعالم، استعداداً للوصول إلى «فنزويلا»، وكأنها تلمح إلى إمكانيات تحرك القارات الثلاث مجدداً، ومن أرض عربية أفريقية عالمثالثية مثل الجزائر؟!
لكني فوجئت بمجرد الانشغال بقضايا تقليدية عن مواجهة الإرهاب، أو حتى معالجة هزيلة لدور دول الجوار الليبي في مواجهة الكارثة المحتملة ثانية في هذه الشقيقة! ومن ثم لن تكسب دول عدم الانحياز بعد استقرار التدخلات الفرنسية إلا تحرك القيادة الأميركية الأفريقية (الأفريكوم) نحو الاستقرار في بلاد المغارب، العربية الأفريقية على السواء !
من غير المنطقي أن تعجز الجزائر عن الخروج من شرنقتها المحلية أو المغاربية إلى العالم، خاصة عالم عدم الانحياز، وهي التي أكدت ذلك مبكراً منذ صفقات الغاز الغربية إلى صفقات الأسلحة الشرقية، وذلك قبل أن يتحرك هذا المحور مؤخراً، على هذا النحو، ومنذ كان حسني مبارك – ويا للعجب- يُنتخب لرئاسة عدم الانحياز.
فهل لا تستطيع الجزائر، بعد كل هذا الضجيج في روسيا والصين أمام الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أن تعلن وتواصل رسالة عدم الانحياز قوية ومجددة؟ فالجزائر لديها من الكفاءات والمثقفين والقوى الحية، ما يجعل الرسالة شعبية بحق وليس بالضرورة حكومية فقط، وليلتقي المشرق والمغرب على أرضها من أجل عالم ثالث جديد!